يدر بخلدي وأنا أطالع كتبي أن يأتي ليقطع علي تدفق أفكاري… أو يفسد فرحتي بإرهاصات قدوم الشتاء في ذلك النسيم الرائع… لم أدرك أن فتح النوافذ قد يأتي بغير النسيم…بضيف غير مرغوب ربما …وقد كان… فقد اقتحم الصرصور علي خلوتي… ربما لم يكن يوماً ممتعاً بالنسبة لي… لكنني أجزم أنه كان يوماً كارثياً عليه…!!كان مفتوناً بشاربيه الطويلين… لم يدر أن فيهما مقتله… متباهياً بزيه البني المصقول… الذي كان سبب محنته.بدأت أطارده… بحثت عن شيء أدكه به قبل أن يهرب… تطوع حذائي للقيام بالمهمة، وقف الصرصور ينظر إلي نظرة بلهاء محركاً شاربيه كأصابع تعزف على “الأورج”، استفزني فأمسكت بالحذاء لأهوي عليه.
تأملته وهو يلفظ أنفاسه… لعله الآن يتساءل عن هذا العملاق الأحمق، الذي يعيش في مسكن كبير، يأكل أفضل الطعام، ويحرمني تصريح المرور، فضلاً عن تناول الفتات. ولعله رماني بالجنون … فكيف يترك إنسان كتبه ليجري وراء كائن ضعيف في همجية منقطعة النظير. ولعل الفاجعة لديه كانت حين رآني -وهو في الرمق الأخير- أحضر معدات الحرب حاملاً المبيد الحشري بحماس بالغ، معلناً التطهير العرقي ودك خنادق ومنافذ تسلل كل من ينتمي لجنسه.
إن هذا الصرصور يعاني من أزمة إدراك، فكل ما دار بعقله كان منطقياً، لكنه عجز عن فهم طريقة تفكير الجنس البشري، وكيف ينظر إليه باعتباره عدواً واجب الاستئصال، ربما تساءل لم لا نتحاور أو نصل إلى حل وسط؟؟!! وهذه أزمة إدارك أخرى فلن يتحاور الإنسان مع الصرصور طالما اعتبره صرصوراً، وطالما ظلت الذاكرة التاريخية للإنسان عن الصرصور مشبعة بأنه عدو مبين.
وربما عانيت أنا من أزمة إدراك… لم لا يكون مختلفاً عن غيره ناقماً على أجداده؟؟!!، ربما لم يأت ليفسد في المكان… لكن كيف لي أن أعرف إن كان هذا الجنس تغير وتطور؟!!
إن الصراع بين الإنسان والصرصور ممتد منذ ملايين السنين، وكان أمام الصرصور تاريخياً عدة خيارات منها:
أن يبتعد نهائياً عن عالم الإنسان ويعلم أنه لا قِبل له به.
إن كان بالفعل تغير ويريد إثبات حسن النوايا وأنه صرصور بريء، فليغير لونه ونمط تحركه المتسلل ويتوج ذلك بتغيير اسمه فيتحول إلى كائن جديد سيبدأ الإنسان باستكشافه والتعرف عليه، فيتخلص من الذاكرة التاريخية، وربما اكتشف خطأ أجداده بالاعتداء على مملكة الإنسان، وأنهم هم سر معاناته بما ورثه من عداء للإنسان، ولينظر إلى أقرانه من الحيوانات كالحمام والعصافير التي يتلذذ الإنسان بإطعامها.
أما إن كان مصراً على سلوكه ويرى فيه حقاً له:
فليغير موازين القوى لصالحه فيتضاعف حجمه ليصبح شاربه كذراع الأخطبوط قادراً على التمكن من الإنسان والفتك به.
أو يتحالف مع كائن يخيف الإنسان، فإذا اعتدى الإنسان على الصرصور سيتدخل الأسد بوثبته القاتلة.
وقبل ذلك كله على الصرصور أن يفهم الإنسان جيداً، ويدرك دوافعه الحقيقية لمطاردته، وشكوكه منه، فربما تفهم موقف الإنسان فابتعد عنه، أو استسلم للموت بين يديه.
في تصوري أنه إن لم يحدث ذلك سيظل الصرصور يصرخ بالبراءة، ودموية الجنس البشري، منادياً بحوار غير متكافيء، وسيظل الإنسان في ممارسة التطهير العرقي باعتبار الصرصور خطراً على الإنسانية، يشوه وجهها الحضاري.
لقد اختار الصرصور استراتيجية التكاثر الكمي للبقاء، فأنثى الصرصور تضع مئات الآلاف أو ملايين البيضات، لذلك فقد استعصى الجنس الصرصوري على الإبادة منذ قديم الزمان.
نعم… لقد اتخذ استراتيجية التكاثر الكمي للبقاء، وهي استراتيجية قادرة على حفظ النوع، لكنها لا تضمن لهذا النوع أن ينال التقدير، أو يثبت مشروعه، وينجز برنامجه، ويتسلم ريادة الكون، إنها استراتيجية تضمن أن يجد الإنسان مبرراً ليختبر رشاقته، ويجدد نشاطه، ويترك كتبه.
عندما يصل بك عقلك إلى تبني استراتيجية البقاء ملايين السنين، فاعلم أنك تملكت عرش الفَناء باقتدار.
من السهل أن تكون… والتحدي ألا تكون هدفاً يُصَوَّب عليه… مطلوب أن تبقى… والتحدي ألا تبقى جاهلاً بخصمك مكتفياً بالتنديد بوحشيته عبر ملايين السنين… جميل أن تتحاور… والتحدي ألا يكون لك وزن يجبر من أمامك على محاورتك.. رائع أن تختار… والتحدي ألا تختار أن تكون صرصوراً بريئاً!